الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ووجه ذلك الراغب بأن الرجاء والخوف يتلازمان، وأما الاعتراض على الإمام بأن استعمال الضد في الضد جائز في الاستعارة التهكمية فليس بشيء لأن مقصوده رحمه الله تعالى أن ذلك غير جائز في غير الاستعارة المذكورة كما يشعر به قوله تفسير دون استعارة ثم إنه لا يجوز اعتبار هذه الاستعارة هنا لأن التهكم غير مراد كما لا يخفى، ويعلم مما ذكرنا في تفسير الآية أن الباء للظرفية، وجوز أن تكون للسببية على معنى سكنوا بسبب زينتها وزخارفها، واختيار صيغة الماضي في الخصلتين الأخيرتين للدلالة على التحقق والتقرر كما أن اختيار صيغة المستقبل في الأولى للإيذان بالاستمرار {والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا} المفصلة في صحائف الأكوان حسبما أشير إلى بعضها أو آياتنا المنزلة المنبهة على الاستدلال بها المتفقة معها في الدلالة على حقية ما لا يرجونه من اللقاء المترتب على البعث وعلى بطلان ما رضوا به واطمأنوا فيه من الحياة الدنيا {غافلون} لا يتفكرون فيها أصلًا وإن نبهوا بما نبهوا لانهماكهم بما يصدهم عنها من الأحوال المعدودة، وتكرير الموصول للتوصل به إلى هذه الصلة المؤذنة بدوام غفلتهم واستمرارها والعطف لمغايرة الوصف المذكور لما قبله من الأوصاف وفي ذلك تنبيه على أنهم جامعون لهذا وتلك وأن كل واحد منهما متميز مستقل صالح لأن يكون منشأ للذم والوعيد، والقول بأن ذلك لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسًا والانهماك في الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم الآخرة أصلًا ليس بشيء إذ يفهم من ظاهره أن كلًا منهما غير موجب للوعيد بالاستقلال بل الموجب له المجموع وهو كما ترى، وكونه لتغاير الفريقين بأن يراد من الأولين من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له كأهل الكتاب الذين ألهاهم حب الدنيا والرياسة عن الإيمان والاستعداد للآخرة بعيد غاية البعد في هذا المقام. اهـ.
هو بهذا القول يبين أن الشباب أمر محبوب ومرغوب. لكن هل يتأتى هذا؟ طبعًا لا. إذن: التمني هو طلب شيء محبوب لا يمكن أن يقع؛ ومثل قول الشاعر: وهذا غير ممكن.أما الرجاء فهو أن تطلب شيئًا محبوبًا من الممكن أن يقع.وهنا يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}، فلماذا لا يرجون لقاء الله؟ لأن الذي يرجو لقاء الله هو من أعد نفسه لهذا اللقاء؛ ليستقبل ثواب الله، لكن الذي لم يفعل أشياء تؤهله إلى ثواب الله، وعمل أشياء تؤهله إلى عقاب الله؛ فكيف له أن يرجو لقاء الله؟ إنه لا يرجو ذلك.وعلى سبيل المثال: إن الرجل الذي يستشهد ويقدم نفسه للشهادة، ونفسه هي أعز شيء عنده، إنما يفعل ذلك لوثوقه بأن ما يستقبله بالاستشهاد خير مما يتركه من الحياة.إذن: فالذي يرجو لقاء الله هو الذي يُعدُّ نفسه لهذا اللقاء؛ بأن يتقي الله في أوامره، ويتقي الله في نواهيه؛ ولذلك تمر على الإنسان أحداث شَتّى؛ وهي في مقاييس اليقين بين أمرين اثنين: حسنات وسيئات، وكل واحد يعلم أية حسنات قد فعل، وأية سيئات قد اقترف، ولا يغشُّ أحد نفسه، فإذا ما كان حيًّا فقد يجعله الأمل يكذّب نفسه، ولا يرى إلا ما فات من المغريات.أما إذا جاء لحظة الغرغرة في الموت، فهو يستعرض كل صفحته. فإن كانت حسنة استبشر وجهه، وإن كانت سيئة اكفهرَّ وجهه، ولذلك يقال: فلان كانت خاتمته سيئة، وفلان كانت خاتمته متهللة.وهذا كلام صحيح؛ لأن الروح ساعة أن تُقبض فهي تترك الجسم على ما هو عليه ساعة فراقها، فإن كان ضاحكًا ومستبشرًا، فقد رأى بعضًا مما ينتظره من خير.والإنسان وقت الغرغرة لا يكذب على نفسه، فهو ساعة يمرض بمرض فهو يأمل في العافية، فإذا أتى وقت انتهاء تُعْرَضُ عليه أعماله عَرْضًا سريعًا، فإن كانت الأعمال حسنة تنفرج أساريره؛ لأنه يستشرف ما سوف يلقاه من جزاء.وهذا مثل التلميذ حين يكون مُجِدًّا ومجتهدًا ثم يقولون له: هناك من جاء لك بالنتيجة؛ فيجري عليه مطمئنًا. وإن كان غير مُجِدٍّ؛ لم يجب، ويخاف من لقاء مَنْ يحمل النتيجة.كذلك الذين يرجون لقاء الله؛ عملوا استعدادًا لهذا اللقاء وينتظرون الجزاء من الله، أما من لم يعملوا فهم يخافون من لقاء الله ولا يرجونه وسبب ذلك أنهم لم يعملوا للآخرة {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا} وكأنهم قد اكتفوا بها ولم يرغبوا في الآخرة.وقد سمى الله هذه الدار اسمًا كان يجب بمجرد أن نسمعه ننصرف عنها، فقال: {بالحياة الدنيا} ولا يوجد اسم أقل من ذلك، والمقابل للحياة الدنيا هي الحياة العليا.والإنسان قد يبحث في عُمْر الدنيا ويقول: إنها تستمر عشرة ملايين من السنين، أو مائة مليون سنة، وقد لا يلتفت إلى أن عمره هو موقوت في هذه الدنيا.إذن: فالدنيا بالنسبة لك هي مقدار عمرك فيها، لا مقدار عمرها الحقيقي إلى أن تقوم الساعة، وماذا تستفيد منها وهي تطول لغيرك؟ إن عمر الدنيا بالنسبة للإنسان هو مقدار مُكْث الإنسان فيها، وهو مظنون وغير متيقن، وقد يمت وهو في بطن أمه أو يموت وهو ابن شهر، أو ابن سنة، أو بعد أن يبلغ المائة. فالذي يرضي بغير المتيقن قصير النظر.ولذلك انظر إلى القرآن وهو يقول: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38].وحتى إن قسْت عُمْر الدنيا من بدء الخلق إلى أن تقوم الساعة، فه إلى فناء، وما دامت إلى فناء، فهي متاع قليل، ومن يطمئن إلى هذا المتاع القليل فهو غافل؛ لذلك يُنهي الحق الآية: {والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} عكس ما قال في الذين يعرفونَ قيمة العمل للآخرة. حين يقول الحق: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6].والغفلة: هي ذهاب المعنى عن النفس، فما دام المعنى موجودًا في النفس، فاليقظة توجد، والغفلة تذهب. إذن: الغفلة ذهاب المعنى عن النفس، واليقظة هي استقرار المعنى في النفس.ونحن نعرف أن المعلومات التي يستقبلها الذهن البشري إنما تلتقطها بؤرة الشعور، مثلما تلتقط آلة التصوير الفوتوغرافية أية صورة.وإياك أن تظن أن الإنسان يعرف المعلومة من تكرارها مرتين مثلًا أو أكثر؛ لأن كل الأذهان تتفق في أنها تلتقط المعلومة من مرة واحدة، ويتميز إنسان عن آخر في قدرته على أن يستقبل المعلومة بذهن مستعد لها؛ لأن بورة الشعور لا تلتقط إلا معنى واحدًا، ثم يتزحزح المعنى إلى حاشية الشعور؛ لتأتي المعلومة الثانية، فإن استقبلت المعلومة وفي بؤرة شعورك معنى آخر؛ لا تثبت المعلومة؛ لذلك تكرر القراءة مرة واثنتين وثلاث مرات، حتى تصادف المعلومة خُلُوَّ بؤرة الشعور.ومثال هذا: الطالب حين يحاول حفظ قصيدة، فلو كان ذهنه مستعدًا لاستقبال القصيدة فهو يحفظها من مرة واحدة.
|